سورة المائدة - تفسير تفسير الخازن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم} أي بسبب نقضهم الميثاق؛ وذلك أن بني إسرائيل نقضوا ميثاق الله وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه {لعناهم} يعني جازيناهم على ذلك بأن أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا وأصل اللعنة الأبعاد عن الرحمة {وجعلنا قلوبهم قاسية} يعني غليظة يابسة لا تلين لأن القسوة خلاف اللين والرقة وقيل معناه أن قلوبهم ليست خالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق {يحرفون الكلم عن مواضعه} يعني يغيرون حدود التوراة وأحكامها وقيل هو تبديلهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته من التوراة وقيل هو تحريفهم معاني الألفاظ بسوء التأويل {ونسوا حظاً مما ذكروا به} يعني وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الأيمان يعني على معصية منهم وكانت خيانتهم نقض العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب محمد صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من خيانتهم التي ظهرت {إلا قليلاً منهم} يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب {فاعف عنهم واصفح} أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفوا عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الاية فاعفُ عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك. وقيل: معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد {إن الله يحب المحسنين} يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن والله يحب المحسنين قوله عز وجل: {ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم} لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى} ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن الله تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {فنسوا حظاً مما ذكروا به} يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {فأغرينا} يعني فألقينا وأوقعنا {بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}.
قال قتادة: لما تركوا العمل بكتاب الله وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده، ألقى الله العداوة والبغضاء بينهم. وقيل: العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان: أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة. والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى {وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} يعني أن الله تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم.


قوله تعالى: {يا أهل الكتاب} يعني اليهود والنصارى {قد جاءكم رسولنا} يعني محمد صلى الله عليه وسلم {يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم يظهر كثيراً مما أخفوا وكتموا من أحكام التوراة والإنجيل وذلك أنهم أخفوا آية الرجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك وأظهره وهذا معجزة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابهم ولم يعلم ما فيه فكان إظهاره ذلك معجزة له {ويعفو عن كثير} يعني مما يكتمونه فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به لأنه لا حاجة إلى إظهاره والفائدة في ذلك أنهم يعلمون كون النبي صلى الله عليه وسلم عالماً بما يخفونه وهو معجزة له أيضاً فيكون ذلك داعياً لهم إلى الإيمان به {قد جاءكم من الله نور} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إنما سماه الله نوراً لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور في الظلام وقيل: النور هو الإسلام {وكتاب مبين} يعني القرآن {يهدي الله به} يعني يهدي الله بالكتاب المبين {من اتبع رضوانه} أي اتبع ما رضيه الله وهو دين الإسلام لأنه مدحه وأثنى عليه {سبل السلام} قال ابن عباس: يريد دين الله وهو الإسلام فسبله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وأمر عباده باتباعه. وقيل: سبل السلامة طرق السلام. وقيل: سبل السلام دار السلام فيكون من باب حذف المضاف {ويخرجهم من الظلمات إلى النور} يعني من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان {بإذنه} يعني بتوفيقه وهدايته {ويهديهم إلى صراط مستقيم} يعني دين الإسلام قوله عز وجل: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}. قال ابن عباس: هؤلاء نصارى نجران، فإنهم قالوا هذه المقالة وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم يقولون بالحلول وأن الله قد حل في بدن عيسى فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم حكم الله عليهم بالكفر ثم ذكر الله ما يدل على فساد مذهبهم فقال تعالى: {قل} يعني يا محمد لهؤلاء النصارى الذين يقولون هذه المقالة {فمن يملك} يعني يقدر أن يدفع {من الله شيئاً} يعني من أمر الله شيئاً {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه} يعني يعدم المسيح وأمه {ومن في الأرض جميعاً} ووجه الاحتجاج على النصارى بهذا أن المسيح لو كان إنما كما يقولون لقدر على دفع أمر الله إذا أراد إهلاكه وإهلاك أمه وغيرها {ولله ملك السموات والأرض وما بينهما} إنما قال وما بينهما ولم يقل وما بينهن لأنه أراد ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء فإنها ملكه وأهلها عبيده وعيسى وأمه من جملة عبيده {يخلق ما يشاء} يعني من غير اعتراض عليه فيما يخلق لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق سائر الخلق من أب وأم {والله على كل شيء قدير} يعني أن الله تعالى لا يعجزه شيء أراده فلا اعتراض لأحد من خلقه عليه.


قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وابن أصار ويحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} الآية. وسبب هذه المقالة ما حكاه السدي قال: أما اليهود فإنهم قالوا إن الله أوحى إلى إسرائيل إني أدخل من ولدك النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي منادٍ أن اخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فيخرجون فذلك قوله تعالى: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} وأما النصارى، فإن فرقاً منهم يقولون المسيح ابن الله وكذبوا فيما قالوا على الله تعالى فأما وجه قول اليهود فإنهم يعنون أنه من عطفه عليهم كالأب الشفيق على الولد وأما وجه قول النصارى، فإنهم لما قالوا في المسيح أنه ابن الله وادعوا أنه منهم فكأنهم قالوا: نحن أبناء الله لهذا السبب. وقيل: إن اليهود إنما قالوا هذه المقالة من باب حذف المضاف والمعنى نحن أبناء رسول الله وأما النصارى فإنهم تأولوا قول المسيح أذهب إلى أبي وأبيكم. وقوله: إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء لنقدسن اسمك فذهبوا إلى ظاهر هذه المقالة ولم يعلموا ما أراد المسيح عليه السلام إن صحت هذه المقالة عنه فإن تأويلها أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده وجملة الكلام في ذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على من سواهم بسبب أسلافهم الأفاضل حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فأبطل الله عز وجل دعواهم وكذبهم فيما قالوا بقوله تعالى: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم}. معناه: إذا كان الأمر كما تزعمون فلمَ يعذبكم الله وأنتم قد أقررتم على أنفسكم أنه يعذبكم أربعين يوماً وهل رأيتم والداً يعذب ولده بالنار وهل تطيب نفس محب أن يعذب حبيبه في النار {بل أنتم بشر ممن خلق} يعني بل أنتم يا معشر اليهود والنصارى كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان.
قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء} يعني لمن تاب من اليهود والنصرانية {ويعذب من يشاء} يعني من مات على اليهودية والنصرانية. وقيل: معناه يهدي من يشاء فيغفر له ويميت من يشاء على كفره فيعذبه {ولله ملك السموات والأرض وما بينهما}. يعني: أنه تعالى يملك ذلك لا شريك له في ذلك فيعارضه وهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه {وإليه المصير} يعني وإلى الله مرجع العباد في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم.
قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود اتقوا الله فولله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا: ما قلنا ذلك لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده فأنزل الله هذه الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يبين لكم يعني أحكام الدين والشرائع على فترة من الرسل قال ابن عباس: يعني على انقطاع من الرسل. واختلف العلماء في قدر مدة الفترة فروي عن سلمان قال: فترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة أخرجه البخاري. وقال قتادة: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك وعنه أنها خمسمائة سنة وستون سنة. وقال ابن السائب: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك: إنها أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس: على فترة من الرسل قال: على انقطاع منهم. قال: وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وستون سنة وهي الفترة وكان بين عيسى ومحمد أربعة من الرسل فذلك قوله: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} قال: والرابع لا أدري من هو فكانت تلك السنون مائة وأربعاً وثلاثين سنة نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نبيٌّ ضيعَه قومه».
قال الإمام فخر الدين الرازي: والفائدة في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عند فترة الرسل، هي أن التحريف والتغيير كان قد تطرف إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق فصار ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد ك فبعث الله في هذا الوقت محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر فذلك قوله عز وجل: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير} يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير في هذا الوقت {فقد جاءكم بشير ونذير} يعني فقد أرسلت إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر {والله على كل شيء قدير} يعني أنه قادر على بعثة الرسل في وقت الحاجة إليهم.
قوله عز وجل: {وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} قال ابن عباس: اذكروا عافية الله. وقيل: معناه اذكروا أيادي الله عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري: هذا تعريف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلَّى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات الله عز وجل: {إذ جعل فيكم أنبياء} يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة الله عليكم إذ فضلكم بان جعل فيكم أنبياء. قال الكلبي: هم السبعون الذي اختارهم موسى من قومه وانطلق بهم إلى الجبل وأيضاً كان أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهؤلاء لا شك أنهم من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب وهم الأسباط أنبياء على قول الأكثرين وموسى وهارون عليهما السلام وأيضاً فإن الله تعالى أعلم موسى أنه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء فإنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فكان هذا شرفاً عظيماً لهم ونعمة ظاهرة عليهم {وجعلكم ملوكاً} يعني: وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيداً في أيدي القبط. قال ابن عباس: يعني جعلكم أصحاب خدم وحشم. قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً» ذكره البغوي بغير سند وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم، قال: لك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: أنت من الأغنياء، قال فإن لي خادماً قال فأنت من الملوك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جرية ومن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني من عالمي زمانكم يذكرهم ما أنعم الله به عليهم من فلق البحر لهم وإهلاك عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم وإخراج الماء من الحجر لهم وتظليل الغمام فوقهم إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8